كيف سافرت «جلابية هنومة» من «باب الحديد» إلى خزائن نانسي وهيفاء؟
الصور بلطف عن الشبكة
كتبت: سامية عرموش
يُعدّ فيلم «باب الحديد» (1958)، من بطولة هند رستم وفريد شوقي وإخراج يوسف شاهين، علامة فارقة في تاريخ السينما المصرية. وقد صُنّف ضمن أهم 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، وواحداً من أبرز 1000 فيلم في تاريخ السينما العالمية وفق القوائم النقدية التجميعية.
وبعيداً عن دوره العميق في رفع الوعي العمالي، وما أثاره من جدل لدى المؤسسة الحاكمة آنذاك، يتناول هذا المقال جانباً بصرياً راسخاً في الذاكرة السينمائية: زي «هنومة»، بائعة المثلجات في محطة القطارات، التي جسّدتها الراحلة هند رستم.
---
الصعود من التهميش إلى الأيقونية
إحدى أبسط إطلالات هند رستم، والتي تركت أثراً عميقاً ونُقشت في الذاكرة الجمعية، كانت الجلابية المخططة المهملة التي ارتدتها في شخصية «هنومة».
هذا الزي، المتناغم مع بيئة العمل القاسية في محطة القطارات، لم يكن مجرد تفصيل بصري عابر، بل شكّل **ترميزاً طبقياً واضحاً** للفقر والتهميش والهامش الاجتماعي.
المفارقة أن هذه الجلابية، المرتبطة أصلاً بجسدٍ مهمَّش داخل فضاء عام صاخب، تحولت مع الزمن إلى أيقونة جمالية استُلهمت لاحقاً من قِبل نجمات ينتمين إلى نقيض هذا العالم الطبقي، وهو ما يمنحها حمولة دلالية مركّبة.
---
استدعاء الأيقونة: نانسي وهيفاء تعيدان «هنومة» إلى الواجهة
تحولت هذه الإطلالة البسيطة إلى مظهر مُحتذى في عالم الفيديو كليب، لا سيما لدى نجمات البوب اللبنانيات:
في عام 2004، قدّمت نانسي عجرم تقليداً مباشراً لإطلالة «هنومة» في فيديو كليب «آه ونص»، بإخراج نادين لبكي، حيث ظهرت بالجلابية المخططة نفسها، مع الحفاظ على الروح البصرية العامة للشخصية.
وفي عام 2006، ذهبت هيفاء وهبي أبعد من ذلك، إذ لم تكتفِ باستحضار الزي، بل استعادت الفضاء المكاني ذاته، من خلال التصوير داخل مقطورة قطار في كليب «تيجي إزاي»، بإخراج هادي الباجوري، في محاكاة واضحة لأجواء «باب الحديد».
هكذا، لم يقتصر التناص على الزي وحده، بل شمل السردية البصرية والفضاء والمزاج العام، ما يجعل هذه الأعمال تدخل في حوار مباشر مع النص السينمائي الأصلي.
---
بودريار وظاهرة المحاكاة: من الرمز إلى الصورة المُعاد تدويرها
يمكن قراءة إعادة إحياء «جلابية هنومة» من خلال نظرية المحاكاة (Simulation) لدى الفيلسوف الفرنسي جان بودريار.
في سياقها الأصلي، أدّت الجلابية وظيفة درامية رمزية، عبّرت عن الفقر والتهميش والاختناق الاجتماعي داخل فضاء محطة القطار.
أما في السياق المعاصر، فإن إعادة إنتاجها داخل فيديو كليب استعراضي تُجرّدها من بعدها الاجتماعي، وتحوّلها إلى علامة جمالية مستقلة، أو ما يسميه بودريار: الصورة المُحاكاة (Simulacrum).
هنا، لا تعود الجلابية تمثيلاً لواقع اجتماعي، بل إشارة إلى إشارة، وصورة تستحضر الماضي دون أن تحمله فعلياً.
---
هل تموت الأيقونة… أم تعيش بالاستنساخ؟
يثير هذا التحول سؤالاً بودريارياً بامتياز:
هل استمرار حضور هذه الإطلالة عبر إعادة إنتاجها وتدويرها بصرياً يعني إحياءها؟
أم أننا أمام ما يسميه بودريار «موت الموت الرمزي»، حيث لا يموت الأصل فعلياً، بل يستمر في الوجود عبر نسخ متتالية تفقده معناه الأول؟
في هذه الحالة، تعيش «جلابية هنومة» لا كرمز اجتماعي، بل كذاكرة مُعلّبة، تُستدعى حين تكون قادرة على جذب الانتباه البصري.
---
نوستالجيا أصيلة أم استهلاك للذاكرة؟
يبقى السؤال مفتوحاً في زمن الإنتاج البصري السريع:
هل كان استدعاء شخصية «هنومة» بدافع نوستالجيا صادقة ومخاطبة للذاكرة الجمعية؟
أم أن الأمر لا يعدو كونه استثماراً لجمالية بصرية راسخة، في ظل عجز إبداعي محتمل عن إنتاج رموز جديدة بالقوة نفسها؟
---
ملاحظة ختامية
في تعليقها على تقليد إطلالتها، أعربت هند رستم عن سعادتها، قائلة:
«لم أغضب لتقليد نانسي عجرم وهيفاء وهبي… بل سعدت جداً، لأنهن جميلات ولديهن طلة رائعة على الشاشة. ولكن ولا واحدة منهن تشبهني».
تصريحٌ يلخّص بدقة الفجوة بين **الأصل الأيقوني** ونسخه اللاحقة: تشابه في الشكل، واختلاف في المعنى.
---
تنويه
هذا المقال هو ثمرة مُقرّر أكاديمي قُدِّم ضمن دراستي لدرجة الماجستير عام 2015، وتمت إعادة صياغته وتوسيعه ليتلاءم مع النشر الحالي.


هاي فايف