السينما مرآة المجتمع: كيف أسهمت الأفلام المصرية في قيادة التغيير الاجتماعي

سامية عرموش
كتبت: سامية عرموش
لطالما كانت السينما، في جوهرها، أكثر من مجرد وسيلة ترفيه. إنها مرآة تعكس الواقع، ومنبرًا قويًا لإثارة القضايا المسكوت عنها، ومحفزًا للتغيير الاجتماعي. في مصر، لعبت الأفلام دورًا محوريًا في تسليط الضوء على قضايا المرأة، وتحدي الأعراف البالية، والدفع نحو إصلاحات تشريعية ومجتمعية. من "أريد حلاً" إلى "678"، نستعرض كيف قادت الشاشة الفضية مسيرة التنوير والتغيير.
"أريد حلاً": شرارة أضاءت طريق الخلع وتاريخ السينما في عام 1975، أحدث فيلم "أريد حلاً"، بطولة سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة ورشدي أباظة، ضجة كبرى شكلت نقطة تحول في تاريخ السينما المصرية وتشريعات الأحوال الشخصية. الفيلم، الذي أخرجه سعيد مرزوق ويحتل المرتبة الحادية والعشرين ضمن قائمة أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، لم يطرح فقط قضية المشاكل الزوجية المعقدة والظلم الواقع على النساء، بل ركز على حق الزوجة في طلب الطلاق في ظل القيود القانونية آنذاك، وخاصة غياب حق الخلع.
تدور أحداث الفيلم حول "درية" (فاتن حمامة)، التي تستحيل الحياة بينها وبين زوجها الدبلوماسي "مدحت"، وعندما يرفض طلاقها، تضطر للجوء إلى المحكمة الشرعية لرفع دعوى طلاق. يكشف الفيلم عن عمق المعاناة التي تعيشها المرأة للحصول على الطلاق، فـ"درية" تدخل في متاهات المحاكم وتتعرض لسلسلة من المشاكل والعقبات التي تهدر كرامتها، وتتعقد الأمور عندما يأتي الزوج بشهود زور ضدها، لتخسر قضيتها بعد مرور أكثر من أربع سنوات. هذه المأساة السينمائية لم تكتفِ بعرض المشكلة، بل وجهت دعوة صريحة للتغيير، وهو ما استجاب له المجتمع والحكومة. وقد أدت حملة التوعية التي أثارها الفيلم، والضغط الشعبي المتنامي، إلى تعديل قانون الأحوال الشخصية عام 1979، الذي عرف بـ "قانون جيهان السادات"، ومن ثم جاء لاحقاً قانون الخلع الذي منح المرأة حق إنهاء الزواج دون الحاجة لإثبات الضرر، ليحل هذا الفيلم فعليًا مشكلة كانت تؤرق آلاف النساء.
"آسفة أرفض الطلاق": إلغاء بيت الطاعة بصرخة سينمائية في عام 1980، جاء فيلم "آسفة أرفض الطلاق"، من إخراج يوسف أبو سيف وسيناريو نادية رشاد، وبطولة النجمة ميرفت أمين وحسين فهمي، ليواصل الكشف عن الظلم الواقع على المرأة في قوانين الأحوال الشخصية. الفيلم يروي قصة "منى" (ميرفت أمين) التي كرّست حياتها لزوجها وابنتها، لتتفاجأ في العيد العاشر لزواجهما بقرار زوجها "عصام" بالانفصال عنها بهدوء. لكنها ترفض هذا الطلاق بهذه البساطة بعد عشر سنوات من الحياة الزوجية التي اعتبرتها كل شيء في مجتمعها، وتتساءل بأي حق يكافئها زوجها بهذا الشكل.
لم يكتفِ الفيلم بتصوير معاناة المرأة من الطلاق التعسفي، بل ساهم بشكل مباشر في إلغاء نظام "بيت الطاعة" في مصر. لقد أظهر الفيلم بوضوح كيف كانت هذه المادة القانونية أداة قمعية تضع المرأة تحت سلطة الرجل المطلقة، وتجبرها على العودة إلى بيت الزوجية حتى لو كانت العلاقة مستحيلة أو مؤذية. صدى الفيلم العميق في الشارع المصري، بالإضافة إلى جهود المنظمات النسوية، دفع بالمشرعين نحو إلغاء هذا النص القانوني، ليصبح قرار المرأة في مكان إقامتها حقًا أصيلًا، وليؤكد الفيلم مرة أخرى على قوة السينما في إحداث تغييرات قانونية تلامس حياة آلاف النساء.
الفيلم 678: مواجهة التحرش وتحديات المباشرة السينمائية في عام 2010، اقتحم فيلم "678" للمخرج محمد دياب قضية التحرش الجنسي في الشوارع المصرية بجرأة غير مسبوقة. لم يكتفِ الفيلم بعرض معاناة النساء الثلاث (فايزة، نيللي، وصبا) من هذه الظاهرة المدمرة، بل أثار نقاشًا نقديًا حول فعالية الخطاب المباشر في السينما الاجتماعية. فبينما أشاد النقاد بجودته الفنية، تساءلوا عن ضرورة الحوارات الصريحة ومشاهد التوجيه المباشر.
رغم هذا الجدل، حقق الفيلم نجاحًا جماهيريًا وإيرادات بلغت 6 ملايين جنيه مصري (في منتصف فترة عرضه)، مما جعله نموذجًا فريدًا يجمع بين القيمة الفنية والتأثير التجاري. استند الفيلم إلى وقائع حقيقية، أبرزها "قضية نهى رشدي" التي أسهمت في تجريم التحرش قانونيًا بمصر، بالإضافة إلى قصص تعكس واقع التحرش اليومي لمختلف الطبقات الاجتماعية. بفضل تصويره الصريح، ساهم "678" بشكل كبير في كسر حاجز الصمت ورفع الوعي العام حول التحرش، مما دفع نحو إصدار قوانين لتجريمه وتغليظ عقوباته، مؤكدًا الدور التحويلي للسينما في إحداث تغييرات قانونية ومجتمعية ملموسة.
السينما كقوة للتغيير تُظهر هذه الأمثلة، من "أريد حلاً" إلى "678"، أن السينما المصرية لم تكن مجرد وسيلة ترفيه، بل كانت قوة دافعة للتغيير الاجتماعي. هذه الأفلام لم تكتفِ بعرض المشاكل، بل قدمت حلولًا ضمنية، وألهمت نشطاء، ودفعت المشرعين إلى إعادة النظر في قوانين عفا عليها الزمن. إنها تؤكد على أن الفن قادر على كشف النقاب عن الظلم، وتحفيز الوعي، وتوحيد الجهود نحو مجتمع أكثر عدلاً ومساواة، حيث كرامة المرأة وحقوقها مصانة. ولكن، في ظل التحديات المعاصرة والتغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، هل ستظل الشاشة الفضية قادرة على إشعال شرارة التغيير، أم أن دورها سيتحول في مواجهة آليات التأثير الجديدة؟ ومع ذلك، لا يخلو هذا المسار من التحديات، فمن الرقابة إلى الجدل حول الخطاب المباشر، تظل السينما في سعي دائم لتحقيق التوازن بين الفن والتأثير، مؤكدة على أن رحلة التغيير الاجتماعي لا تتوقف.
الكاتبة هي: صحافية وناقدة سينمائيّة، محاضرة مُستقلّة في موضوع السينما كأداة للتّغيير الاجتماعيّ، حاصلة على ماجستير بدرجة امتياز في موضوع "ثقافة السينما" من جامعة حيفا.