الأحد , 28 أبريل 2024 - 8:58 صباحاً

السينما الفلسطينية… متى يكون الفيلم نضالياً؟

السينما الفلسطينية… متى يكون الفيلم نضالياً؟ سليم البيك

السينما الفلسطينية… متى يكون الفيلم نضالياً؟ سليم البيك

السينما الفلسطينية… متى يكون الفيلم نضالياً؟ سليم البيك

طباعة تكبير الخط تصغير الخط

لا يمكن للقارئ في مقالات وبحوث عن السينما الفلسطينية، إلا ملاحظة إسقاطات متكررة، وبأثر رجعي، مصوّبة إلى سينما الثورة التي تأسّست تدريجياً أواخر الستينيات. ويكون ذلك عموماً في حديث عن السينما اللاحقة التي بدأت مع ميشيل خليفي في الثمانينيات تحديداً، فيُقال إن أفلام الثورة، مقابل وثائقيات خليفي وروائياته، كانت، بالمقارنة، دعائية تفتقد الحسّ الإنساني.
مرّت معي هذه الإسقاطات القاصرة عن فهم معنى كلٍّ من أفلام الثورة وأفلام خليفي، في أكثر من مقالة وكتاب ولأكثر من ناقد وكاتب جهلتْ نصوصُهم طبيعة الفيلم النضالي، أو تجاهلتْها، أو أخذت أصحابَها الحماسةُ تجاه أفلام خليفي وآخرين من بعده. وهو ما أحال ملاحظةَ هذا المرور لإسقاطاتٍ هنا وهناك، إلى ضرورة النقاش، لتصحيح صورة هذه الأفلام وتلك، أفلام الثورة وأفلام اللاحقين، وتصحيح تصوّر قرّاء تلك الإسقاطات، وكتّابها إن كان لا بد من ذلك، حول نوع الفيلم النضالي.
مستوى لا ينمّ إلا عن قصور في معرفة ما يتوجّب أن يكون عليه الفيلم النضالي في حالته الفلسطينية أولاً والعالمية ثانياً، تجعل ناقداً يصف تلك الأفلام بالأيديولوجيّة، مقدّماً الكلمة في سياق الشتيمة. الأيديولوجية ليست حتى ذماً.. هي توصيف علمي يمكن سحبه على الأفلام كما على غيرها، وهي هنا حاضرة وبشدة في هذا النوع من الأفلام. في حالتنا هذه، تتخذ الأفلام لنفسها هذه الصفة، دون انتظار توصيف استرجاعي لها يكون من الخارج. لكن الأدلجة، وهي منظومة أفكار متجادلة ومنسجمة، تختلف في حال أدركها صاحبها وتصرف على أساسها، أو جهل بها ونعت كل ما له خط سياسي وثوري ويساري واضح، بالمؤدلَج. قد لا يعنينا هنا مدى وعي «منتقدي» السينما النضالية لنضاليتها وأيديولوجيتها، من عدمه، بل مدى الخلط الذي يمكن أن يتسبب به هؤلاء تجاه قرّاء النصوص النقدية. وهذا غير توصيفات تذهب بالتّدهور النقدي إلى أقصاه، في القول إن هذه السينما شعاراتية وحربية يملؤها الضجيج والصراخ.
من يتوقع سينما خافتة من فيلم نضالي لا يعرف ما هو هذا الفيلم، ومن يتوقع قصة فيه لا يعرف ما هو كذلك، ومن يتوقع ترفيهاً أو ميلودراما كذلك لا يعرفه. لا يمكن إذن لجاهلٍ بنوع الفيلم النضالي أن يتذمر لأن الفيلم لم يلبِّ توقّعاته. كأن يحمل أحدهم نصّاً فكرياً لتنظيم قتاليّ يتناول الطبيعة الطبقية للثورة، ويقلّبه مصرّاً على إيجاد الشخصية الرئيسية، ثم يتذمّر من هذه «القصة» التي سقطت بين يديه، في أن لا عناصر قصصية فيها ولا حبكة.
ليس موضوعي هؤلاء. هم مدخل لهذه المقالة منه أقدّم موضوعي المنحصر في نوع السينما النضالية وعلاقة سينما ميشيل خليفي بها، لكن، قبلاً، قد لا يحتاج قارئ هذه الأسطر ما سأورده هنا، إن كان مطّلعاً على كتب ومجلات وبيانات آتية من زمن الثورة، فقراءة موازية لما صدر آنذاك عن الفيلم النضالي، يمكن أن تشي بقلة إلمام أو بعدمه، لكتّاب مستحدِثين تجاه النصوص الأصلية. أما التفوّه بشعاراتية الفيلم النضالي، كنوع من الذم، يتخطى الجهلَ بصفته عدم المعرفة، إلى المعرفة الخاطئة والأسوأ الكتابة الانطباعية على أنها نقدية، بناءً عليها.
نبدأ بأفلام خليفي وآخرين، التي شكلت مرحلة تالية لسينما الثورة، أما التركيز على اسم خليفي هنا وفي أي حديث عن هذه المرحلة، فهو لأسبقية أفلامه أولاً، ثم لتمايزها وتفاوتها ما بين الوثائقي والروائي، ولسبب سياقي ورمزي يعود لكونه سينمائياً من داخل البلاد، لا من المخيمات خارجها، وقد أتت أفلامه بالتزامن مع أفول الثورة أوائل الثمانينيات ثم انتقال ثقل الحراك الوطني إلى داخل فلسطين في أواخرها. وذلك كله بمعزل عن تراجع في أهمية وجَودة أفلامه في المرحلة اللاحقة من عمله السينمائي.
الكتابات التي تذمّ بأفلام الثورة في حديثها المثني على أفلام خليفي، تجهل مرجعية تلك الأفلام لدى خليفي نفسه، الذي انطلق منها مجدداً بأسلوبه، في تضمين أفلامه، الوثائقيات تحديداً، بعداً إنسانياً وفردياً مقابل النضالي والجماعي في تلك الأفلام، ووعي خليفي ومرجعياته الماركسية سمحت له بذلك التجديد الذي أوجد معه مرحلة جديدة للسينما الفلسطينية، بوعي الباني على الأصل والمجدّد، ودون القطع مع المرحلة الناضجة في سينما الثورة. ويمكن للباحث أن يجد ذكراً لخليفي في حوارات قديمة معه، لتأثير أفلام الثورة على نهجه السينمائي ولمحاولته صناعة سينما تمتد منها ولا تنقطع عنها (في كتاب بعنوان «الذاكرة الخصبة» يضم مقابلات مع خليفي ومقابلات عنه، أصدرته سينماتيك بروكسل عام 2019).
أما الأفلام النضالية فهي موضوع آخر. نبدأه أولاً بالقول إن «نضالية» هذه تصنيف وليست توصيفاً، أما الإشارة الشائعة إلى الأفلام بالـ «ثورية» فهذا توصيف. والكثير يخلط ظاناً أن القول إن الفيلم «نضالي» إنما يعود لمضمونه السياسي والمقاوِم، فيقال بتسرّع: إن كل السينما الفلسطينية نضالية. لنصحّح قليلاً: الفيلم النضالي نوع من «السينما الثالثة» المتعلقة بحركات ثورية يسارية واشتراكية، أو بحركات تحرر وطني، امتدت على كامل الكرة الأرضية وامتازت إضافة إليها في الثورة الفلسطينية، في حراكات وأحزاب ودول ثورية، في فيتنام والجزائر وكوبا وغيرها. برزت في أمريكا اللاتينية وافريقيا، بعض أنواعها التجديدية برز في أوروبا وتحديداً فرنسا التي قام صنّاع أفلام من هناك بإخراج أفلام تضامنية مع الجزائر وفلسطين وغيرهما، وفي أفلام محلية تجريبية اتخذت اسم «فيلم الواقع» وفي كل بقعة كان فيها تجارب لدمج العمل السينمائي بالفكر الماركسي والسلوك المقاتل. هو نوع سينما يربط بين الفيلم كسلاح ثوري، وبينه كعمل فني وإخباري وتحليلي وتحريضي، وبالتالي كسلاح أيديولوجي. وكانت له مهرجاناته وأفلامه ونظرياته وكتبه وبياناته السينمائية السياسية.
الحقيقة أني لا آتي بجديد هنا للقارئ المطلع على النصوص المنشورة لسينما الثورة الفلسطينية (أو للسينما النضالية -militant film- في العالم) فندوات ومقالات من ذلك الزمان توضّح معنى هذه السينما فلسطينياً، وتنقض تفوّهات انطباعية لنقّاد لاحقين. والنصوص النظرية حول هذه السينما بأقلام صنّاعها ونقّادها من ذلك الزمان، في العالم، كذلك توضح الطبيعة الخاصة لهذه الأفلام التي لا يمكن تصنيفها بالوثائقية ولا الروائية ولا التجريبية. هي نوع منفصل له تسمية تصنيفية هي «النضالية». أما «الثورية» فهي لا تنحصر بالأفلام النضالية التي هي كذلك ثورية لتلازمها بطبيعة الحال مع حالة ثورية على الأرض، حركة تحرر وطني في الحالة الفلسطينية، فصفة «الثورية» يمكن أن تكون بالمعنى الفني والتقني تماماً، كما يمكن أن تكون مرتبطة بثورة اجتماعية وسياسية إنما منجزة بكلاسيكية الفيلم الروائي أو الوثائقي.
السينما النضالية الفلسطينية انتهت بانتهاء الثورة، تدريجياً أوائل الثمانينيات، أو للدقة، بخروج منظمة التحرير من بيروت، من بعدها دخلت الوثائقيات غير «النضالية» إلى هذه السينما، والروائيات بصنّاعها الفلسطينيين وقد استهلّها خليفي، ثم إيليا سليمان الذي سيرفع هذه السينما، الذاتية والإنسانية، إلى أقصاها. السينما النضالية لا تكون خارج فعل نضالي وثوري على الأرض. بانتهاء الفعل ينتهي الفيلم النضالي، تَصفّ الكاميرا بصفتها سلاحاً، جانباً، وقد اتخذت أشكالاً أخرى كما تتخذ الثورة الآفلة أشكالاً أخرى كانت «انتفاضة الحجارة» في الحالة الفلسطينية. الكاميراً بالنسبة إلى صنّاع الأفلام النضالية، وسيلة للنضال، هي سلاح وبالتالي ما تصّوره سيكون من منطق وظيفتها النضالية. ولا يمكن النظر استرجاعياً إلى الأفلام النضالية بعين الناظر إلى الفيلم الروائي، ولا يمكن الحكم عليها بمعايير الفيلم الوثائقي، ولا باعتبارات لاسياقية. تُقاس السينما النضالية بميزاتها وأسلوبها ونظرياتها وسياقاتها لا بما لحقها مما طرأ بعد أفول ثورتها.
وكي لا يكون المقال سائراً في اتّجاه واحد، أقول إن الحكم كذلك على أفلام اليوم، في الترحّم على «أيام كان الفدائي بطل الفيلم الفلسطيني» إنّه لا يَزيد في جهله عن أنداده ولا يَنقص.

كاتب فلسطيني سوري

#الصورة بلطف عن احدى الصفحات

×