الخميس , 28 مارس 2024 - 9:06 مساءً

من الكاتب إلى النجم ومن الإعلام إلى الإعلان

من الكاتب إلى النجم ومن الإعلام إلى الإعلان

من الكاتب إلى النجم ومن الإعلام إلى الإعلان

من الكاتب إلى النجم ومن الإعلام إلى الإعلان

طباعة تكبير الخط تصغير الخط

بلال خبيز

تصل الأخبار إلى المحرر من وكالات الأنباء التي توظف محررين لهذه الغاية، وعلى المحرر في محطة تلفزيونية، أن يقوم بتعديلات طفيفة على الخبر الذي ورده، ليضعه في جهازه بوصفه معدا للنشر والقراءة، ثم يقوم المسؤولون عن الموقع الإلكتروني التابع لمحطة التلفزيون نفسها، بنقل الخبر الذي تمت إذاعته كما هو من دون أي تعديل، وبعد ذلك تتناقله مواقع أخرى يديرها ناشطون وهواة. والحال كان في وسعنا حقا أن نأخذ الخبر من وكالة الأنباء رأسا ونتجنب كل هذه الدورة المملة من التكرار.

في حقيقة الأمر يبدو مشاهد محطات التلفزيون مهتما بالأشخاص الذين ينقلون له الخبر أكثر من اهتمامه بالخبر نفسه. هكذا نعتاد على مذيعين ومذيعات ونحفظ تفاصيل وجوههم ووجوههن عن ظهر قلب، كما لو أننا في حقيقة الأمر نريد أن نفرد مساحة كافية لساكن جديد في شققنا وبيوتنا. وهذا الساكن ليس إلا وجه المذيعة.

1

ويحدث أيضا أن تتغير الوجوه على الشاشات مع مرور الزمن. والأرجح أن ملل المشاهدين من تكرار الوجوه نفسها وإقامتها في حيزهم الخاص سنوات طويلة، يلعب دورا حاسما في رفع حظوظ الوجوه الجديدة على الشاشات، وإحالة أصحاب الوجوه القديمة إلى الظل والنسيان. كما لو أننا نستهلك الأخبار والتغطيات على النحو نفسه الذي نستهلك فيه شطائر الهمبرغر والبيتزا. نريد أن نحقق اكتفاء على الأقل، إن لم يكن تحقيق المتعة ممكنا. ولهذه الغاية نستبدل الوجوه والاهتمامات والهوايات، بالطريقة نفسها التي نتعامل فيها مع السلع الأخرى، سواء كانت منتجا من سلاسل المطاعم العالمية، أم كانت ثيابا عبرت موضتها وباتت درجتها محل تساؤل واستهجان. ونحن في هذا كله، كمشاهدين\مستهلكين، ننظر إلى الدم المسفوك على الشاشات كمن ينظر إلى صراع بين حيوانين، وفي غالب الأحيان نتضامن مع الضحايا، التي تسفك حيواتها ودمائها في أطراف العالم، بالحرارة نفسها التي نثار فيها لمرأى عارض وعارضة يعرضان ثوبين جميلين على سجادة حمراء.

ما الذي تريد محطات التلفزيون أن توصله إلينا؟ أولا: هذه محطات مكلفة ماديا لمنشئيها ومموليها. تمويلها يحتاج إلى ثروات كبرى، وغالبا ما تكون حكومة هذا البلد أو ذاك هي المتحكم الرئيسي في تمويل هذه المحطة أو تلك. ويترافق إنشاء محطة تلفزيونية غالبا مع توظيف نجوم إعلام تكلف رواتبهم ثروات طائلة. ونادرا ما يكون هؤلاء في حالتنا الشرق أوسطية من البلد الممول نفسه. ما يجعل نجوم التلفزيونات أشبه ما يكونون بنجوم كرة القدم، يمثلون البلد الذي تدفع حكومته رواتبهم ويدافعون عن علمه.

أليس ضروريا والحال هذه أن نسأل عن وظيفة الإعلامي في زمننا الراهن؟ إعلاميو اليوم، نجومهم على وجه التحديد، لا وطن لهم، يشبهون المطربين، انحيازهم الوحيد موجه نحو جمهورهم. وهو جمهور لا يصنعونه بأنفسهم. هو جمهور جاهز، صنعته حدود الدول وخلافاتها، وسياساتها الداخلية والخارجية. فأن تعمل في محطة تمولها روسيا، فأنت حكما تستطيع مخاطبة جمهور عريض من المتحمسين للسياسة الروسية في المنطقة، وللروس الناطقين بالعربية. الحكومات تؤمن الجمهور المتسع والعريض، وعلى النجم التلفزيوني أن يحسن مخاطبته وتسويق نفسه أمامه.

أن تكون إعلاميا عاملا في شبكة CNN، فهذا يعني أن جمهورا متسعا من الليبراليين والديمقراطيين جاهز لإعطائك فرصة تحقيق نجوميتك.

هذا الحكم ينطبق بالدرجة نفسها من الدقة على المحطات التلفزيونية العالمية. أن تكون إعلاميا عاملا في شبكة CNN، فهذا يعني أن جمهورا متسعا من الليبراليين والديمقراطيين جاهز لإعطائك فرصة تحقيق نجوميتك. وأن تكون إعلاميا في شبكة FOX NEWS، فهذا يعني أن جمهور الديمقراطيين والليبراليين لن يتواصل معك على النحو الذي يجعلك نجم هذا الجمهور. ثمة جمهور آخر جاهز لتختبر مهاراتك في تسويق نفسك أمامه.

وجوه التشابه بين الفنانين والمطربين ونجوم الإعلام كثيرة ومتعددة. وربما يكون أحد أكثرها شيوعا أن الجمهور سرعان ما يستبدل النجم الهرم بالنجم الشاب. الجمهور يريد وجوها جديدة، ذلك أن الخطاب الذي يقدمه النجم ليس مهما في حد ذاته. كل النجوم يستطيعون إيصاله إلى الجمهور. المسألة التي يعول عليها تتعلق بمدى ألفة وجه النجم أو النجمة، واستطاعة هذا الجمهور أن يحفظ تفاصيل هذه الوجوه عن ظهر قلب. وما أن يصبح النجم هرما أو متعبا حتى يتم استبداله، ذلك أن المعول عليه كثيرا في هذه الوظيفة ليس الخبرة ولا الثقافة ولا الإحاطة بملفات العالم الشائكة. المعول عليه هو نشاط النجم وقدرته على الرقص المتواصل من دون انقطاع. وهذا يفترض أن يكون الجسم شابا ورياضيا وقادرا على التحمل والاستمرار. هكذا يحدث أن تحل وجوه جديدة وشابة محل تلك التي باتت شائخة وتحتاج للعناية.

المهارة الأخرى التي تتطلبها مثل هذه الوظائف تتصل اتصالا مباشرا بقدرة النجم أو مشروع النجم على إعادة صياغة خطاب المشاهد والممول على نحو يجعل الممول والمشاهد راضيين عن ذكائه وحسن صياغته. يجدر بالنجم التلفزيوني أن يتعلم الإصغاء جيدا وإعادة تدوير الخطاب على نحو يرضي صاحب الخطاب نفسه، والجمهور المتلقي لهذا الخطاب. ويحدث كثيرا أن تتحول المحطات التلفزيونية في خضم الأزمات السياسية إلى الخوض في سباق شتائم لا تنتهي. في هذه اللحظات يجدر بالنجم أن يكون مبدعا في اكتشاف نقاط ضعف الخصم والتصويب عليها. ذلك أن وظيفته هي محاولة الإيحاء لجمهوره بأنه قضى على الخصم بالضربة القاضية. لكن الخصوم ليسوا، ولم يكونوا مرة، نجوم المحطات التلفزيونية المنافسة، بل مموليها والحكومات التي تقف خلفها، والجمهور المتحمس للقضايا التي تدافع عنها المحطة التلفزيونية. والحال، يجدر بالنجم أن يعلن خصومة حادة مع من هم أقوى منه وأكثر قدرة على الإيذاء، وأرفع سلطة بما لا يقاس. لكنه وقد باتت هذه وظيفته، محكوم بأن يهاجم رؤساء وقادة جيوش يملكون من أسباب الأذى ما يفوق طاقته. وعذره في هذا كله، أن الخصم يعرف أن النجم ليس إلا مؤديا لترنيمة الكراهية هذه، وأنه في لحظة ما قد يتحول إلى مناصر له، ومخاصم لمن كان قبل زمن قصير يدافع عنه ويخترع له حججه.

ما تقدم ليس نقدا لعمل نجوم التلفزيون، وهو بطبيعة الحال ليس نقدا لسياسات الحكومات الممولة. كل حكومة ملزمة أن تدافع عن خياراتها، وتتوسل لذلك بكل الوسائل الممكنة. وكل نجم ملزم بأن يرضي جمهوره حتى لو كان نجما لا يجارى. ما تقدم في حقيقته يخفي سؤالا يتعلق بدور الإعلام الذي يتحول رويدا رويدا إلى الإعلان، ويتخلى عن وظيفته التي كان يؤديها بوصفه ناقل حقائق ومعلومات وصانع احتمالات. هكذا يجدر بأي وسيلة إعلامية أن تهاجم السياسة الأمريكية وأن يتبارى نجومها ومحرروها في التبشير بنهاية الإمبراطورية الأمريكية وقدرتها على الهيمنة على مقدرات العالم، ما دامت الحكومة التي تمول هذه الوسيلة الإعلامية تخوض صراعا محدودا مع حكومة الولايات المتحدة. وعليها أي هذه الوسيلة الإعلامية ان تمسح كل ما سبق وأطلقته من ادعاءات وشتائم وتنبؤات ما أن يحصل انفراج في العلاقات بين الحكومتين. في هذه الحال، هل يسعنا أن نصدق كاتبا أو نجما تلفزيونيا يطلق حكما بقرب زوال الهيمنة الأمريكية مدعما بالوثائق والمراجع، إذا كان سيعمد بعد أسابيع إلى إطلاق حكم آخر مدعم بالوثائق والمراجع أيضا عن دوام هيمنتها واستحالة الانقلاب عليها؟

معهد الجزيرة للإعلام

نقلا عن موقع : مينا ايديتورز

×