الخميس , 06 نوفمبر 2025 - 9:29 مساءً

تحليل سينمائي لـ "شبح مقهى": حين يتحول فضاء الحكايات إلى أطلال الذاكرة

الصحفي والشاعر كاظم حسن سعيد

الصحفي والشاعر كاظم حسن سعيد

طباعة تكبير الخط تصغير الخط

مندوبة حيفا24نت

في أيام دراستي للماجستير في "ثقافة السينما"، كانت إحدى النصائح التي قدمتها لنا مدرّبتنا في كتابة السيناريو: "اذهبوا إلى أقرب مقهى، واسترقوا السمع لما يدور فيه من أحاديث... هناك تولد القصص." فالمقهى لم يكن يومًا مجرد مكان لاحتساء القهوة، بل كان مسرحًا حيًا للبوح، للدراما، ولنبض الحياة. لكن حين قرأت قصيدة "شبح مقهى" للشاعر كاظم حسن سعيد، شعرت أن تلك النصيحة عادت إليّ متأخرة. لم نعد نبحث عن القصص الحية، بل عن أطيافها. القصيدة ترسم مشهدًا مؤلمًا لمقهى كان يومًا منبرًا للحوار والحب، وتحول إلى خربة تتنفس بالذكريات، مأهولة برجال يلوكهم الزمن ببطء.

 

القصيدة ترصد تحولًا حادًا وموجعاً: من مقاهٍ نابضة بالحياة والتنوع البشري، إلى فضاء شاحب بالكاد ينبض. لم يعد المقهى مكانًا للقاء، بل صار رمزًا لانهيار تقاليد الحوار والانتماء. إنها ليست مجرد مرثية للمكان، بل نقد اجتماعي صارخ لتحولاتنا التي جرّدت "المقهى" من دوره كمجال عام آمن للبوح والتلاقي، واستبدلته بمساحات افتراضية تفتقر للدفء والحميمية. هذا التآكل للجوهر يظهر في صورة الشاعر:

"صدئت الأشياء مخلفة مقهى شبحياً نجا من المحرقة، وكهولا خاملين يتنفسون بالذكريات."

 

هذا التآكل الوجودي يحمل خصوصية تاريخية في السياق العراقي؛ فالمقهى لم يكن فيه مجرد مكان، بل شخصية اجتماعية وثقافية. من أيام العثمانيين إلى العصر الحديث، لعبت المقاهي الشعبية مثل الزهاوي والشابندر دورًا سياسيًا وثقافيًا محورياً، وكانت ملتقى السياسيين والأدباء والمتمردين. لكن القصيدة ترثي هذا الدور المتلاشي، وتصور ما تبقى من هذه الأمكنة كرموز لجيل تآكلته الخيبات، عالق بين ذاكرة قوية وواقع هش.

قد يرى البعض أن هذه الصورة سوداوية، خاصة وأن المقاهي لا تزال حاضرة في المدن العربية. لكنها تحولت وظيفيًا: فمن منابر فكرية، أصبحت مساحات عمل أو استثمارات ترفيهية. ما يرصده الشاعر ليس مجرد تغير في الشكل، بل تآكل في الجوهر. القصيدة لا تبكي على ديكور قديم، بل على ذاكرة جمعية تلاشت، وعلى روح فقدت مكانها.

 

وانطلاقاً من هذا التكثيف الرمزي، يمكن تخيل القصيدة كمشهد سينمائي مكثف بعنوان "الميناء العتيق، الذي يجسد هذا التحول:

يبدأ المشهد بـ افتتاحية فلاش باك على موسيقى مقامية عراقية صاخبة ممزوجة بأصوات ضجيج الدومينو والضحكات المدوية. نرى لقطات سريعة لمقهى في ذروة مجده يضم طلاب ثأر، وفلاحين، وعامل مقهى يومئ سراً. ثم تتوقف الموسيقى فجأة، وتتحول الإضاءة إلى ضوء غروب شمس شاحب مغبر، لننتقل إلى بقايا مقهى متآكل يُدعى "الميناء العتيق"، يرتفع عن الأرض "متراً واحداً" كأنه معلّق. يجلس على ثلاث تخوت خشبية ثلاثة كهول: سالم (السياسي)، جبار (الفلاح)، وحكمت (الأستاذ المتقاعد)، ويسيطر هدوء مُخيف تكسره همهمة التشيلو الطويلة. يتناوبون الهمس بالخيبات: سالم: "كنا نغير العالم هنا بلعبة دومينو." حكمت (بمرارة): "وهل بقي للعالم ما يُغير؟ ما نفع السياسة حين نصبح نحن أنفسنا خسائر تُحصى؟... هذا هو 'شبح المقهى'. نحن عالقون هنا... على ارتفاع متر واحد من الحياة." تخترق المشهد حركة سريعة لامرأة بيضاء مترفة مع طفلتين مرحتين وهما تدخلان الباب الصغير أسفل المقهى (المدخل الأصلي لبيت الثري). يغص جبار قائلاً: "الأطفال يا حكمت... هم الخسارة التي لا تُحصى. هذا الشبح لم يعد ينتمي إليهم أبداً." وفي المشهد الختامي، ينظر سالم إلى يديه المرتعشتين ويهمس: "صدئت الأشياء... ولم يبق لنا إلا أن نتنفس بالذكريات." تتوقف الموسيقى فجأة عند لقطة أخيرة قريبة على رقم هاتف باهت لـ "خدمات التهديم"، ويحل محلها صوت طقطقة خشبية وحيدة وكأن شيئاً ما انهار.

 

في النهاية، قصيدة "شبح مقهى" تثير تأملات إضافية حول دور المقهى كذاكرة جمعية في المجتمعات العربية، فالمقهى ليس مجرد مكان، بل أرشيف حي للقصص والهويات. حين ينهار، تنهار معه طبقات من التاريخ الشفهي. وعبارة "صدئت الأشياء..." تختصر كل شيء؛ إنها ليست مجرد وصف لحالة مادية، بل لحالة شعورية، ثقافية، وربما وطنية. هذه المرثية القاسية تختبئ خلفها دعوة خفية: دعوة لإعادة اكتشاف المقهى كمكان حي، لا كجثة ثقافية. إنها تذكير بأننا نملك فرصة لإحياء فضاءات الحوار قبل أن تتحول إلى أطلال لا يعرفها الجيل القادم، ولا يسمع فيها صوت الدومينو.

 

×