منال بدارنة… بين جرح اللغة وملح الهوية

منال بدارنة… بين جرح اللغة وملح الهوية
بقلم: رانية مرجية
في زمنٍ تتناقص فيه الأصوات الصادقة وتضيع فيه البوصلة بين هويةٍ مستهدفة ولغة تُستباح، تقف الدكتورة منال بدارنة شامخة كالسنديانة، لا تزهو بورقها فقط، بل بجذورها الممتدة في تربة المعرفة والمقاومة الثقافية. منال ليست مجرّد باحثة ولا معلّمة ولا كاتبة، بل هي مشروع إنساني متكامل، ينحت في الصخر كي لا تموت الذاكرة، ويزرع في العقول نورًا كي لا تُطفأ شمعة الروح.
الكتابة بوصفها مقاومة
تكتب منال بدارنة لا لتروي الحكاية فحسب، بل لتعيد ترتيب اللغة من جديد في مواجهة التغريب، العبرنة، الأمركة، والخراب البارد الذي يأكل الهوية قطعةً قطعة. في مقالتها البديعة “عبرنة اللغة وأمركتها!!”، تنقّب منال في طبقات التحوّل اللغوي الذي يفرضه الاستعمار الناعم، متسائلةً بوجع الأم والمعلمة: “أين ذهب لساننا؟ ومن علّمه أن يخجل من نفسه؟”
إنها لا تكتفي بالتحليل، بل تقاوم بالوعي، بالعودة إلى الجذر، إلى المفردة الأولى التي قالتها الأمّ في فجر فلسطين. كلماتها تمشي كمن يحرث الأرض بأصابعه، فتوقظ المعاني النائمة، وتنهض بالأحرف لتقف في وجه التآكل.
يوم الأرض… ذاكرة لا تنام
في مقالتها “يا يوم الأرض يا يوووم!”، تستحضر منال بدارنة الطفلة التي كانت، وتكتب من الحافة بين الذكرى والدهشة. لا تنقل التاريخ، بل تحياه من جديد، من خلال نبض أهلها، معلميها، والشارع الذي كان يهتف دون خوف. تسكب الحنين في وعاء اللغة، فتمنحهُ طعم التراب المبلل بالدموع، لا بالخطابات الجاهزة.
وفي كل حرف من حروفها، تقف منال على تلة المعنى، تلوّح للذاكرة كي لا تنطفئ، وتهمس في أذن القارئ: “تذكّر جيدًا من أنت… فالمحوُ لا يبدأ بالرصاص، بل بالنسيان.”
المعلّمة… التي لم تستسلم للمنهاج
بعيدًا عن النصوص، منال بدارنة معلمةٌ، لا تتعامل مع التعليم بوصفه وظيفة، بل رسالة تحملها على كتفيها كل صباح. في قاعة الصف، ليست مجرّد ناقلة معرفة، بل حارسة معنى. تربي أجيالًا على أن يسألوا لا أن يحفظوا، على أن يفكّروا لا أن يُلقّنوا.
في مقابلاتها حول البيئة التعليمية المحفّزة للإبداع، تطرح منال رؤيتها الواضحة: المدرسة ليست جدرانًا، بل حياة تُبنى. وتشدّد على أن المعلم يجب أن يكون صاحب روح، لا مجرد مؤدٍّ. لا تخجل من نقد الأنظمة التربوية الجافة التي تقتل الفضول، بل تسعى إلى بناء بيئة تُنبت الفكرة كما تُنبت الأرض الزعتر في الربيع.
الباحثة… بين النظرية والميدان
في أبحاثها العلمية المنشورة في مجلات محكمة، تثبت منال بدارنة قدرتها على الجمع بين الحسّ الإنساني الصادق والمنهج الأكاديمي الرصين. تبحث في الطفولة، في الهوية، في التعليم المبكر، وفي تأثير اللغة على التكوين النفسي والمعرفي. أعمالها منشورة في دوريات مثل International Journal of Early Childhood Special Education، وهي تُعنى بقضايا الفئات المهمشة في الحقل التربوي، وتضع الأسئلة الحرجة التي كثيرًا ما تُهمَل.
ولا تكتب منال من برج عاجي، بل من قلب الميدان، من الصفوف التي فيها يُفصَل الطفل العربي عن لغته، ومن الزوايا التي فيها يُنتزع اللسان ويُستبدل بآخر غريب.
منال بدارنة: الحضور بلا صخب
قد لا تكون منال بدارنة حاضرة في كلّ شاشات الإعلام، ولا تتعالى شعاراتها في الشوارع، لكنها حاضرة في الضمير الثقافي الفلسطيني، بصمتٍ عميق، وصدقٍ نادر. حضورها هو فعل يومي، ممتدّ من حصة اللغة العربية إلى صفحات البحث العلمي، إلى مقالة تُكتَب على مهل في ليلٍ تعب.
إنها المرأة التي تجمع بين دفء المعلمة وصرامة الباحثة ووجدان الكاتبة، وتعيد تعريف الثقافة بوصفها التزامًا وجدانيًا تجاه الأرض واللغة والناس.
⸻
خاتمة:
منال بدارنة ليست فقط امرأة فلسطينية تكتب، بل هي ذاكرة تمشي على قدمين، تحمل جُرح اللغة على كتفيها وتغنّي لها كي لا تموت. باحثة تقف على الحدّ بين العقل والعاطفة، بين المنهج والحلم، بين الصحو والانتماء.
في زمن التهجين اللغوي والهويوي، تبقى منال واحدة من آخر السطور التي لم تُحرّف، وآخر الأصوات التي لم تُبَدل.
ولذلك، فإن الاحتفاء بها ليس ترفًا، بل واجبٌ ثقافي وأخلاقي.